1 – مقدمة تاریخیة ضروریة: قبل الحدیث عن زواج رسول الله (صلى الله علیه وآله وسلم) بالسیدة خدیجة بنت خویلد (علیها السلام) لا بد من التذکیر، إن هذا الموضوع قد تعرض إلى التشویه إلى حد کبیر، إما لعوامل سیاسیة تاریخیة أو لعوامل الغیرة والحسد التی اتصفت بها بعض أزواج النبی (صلى الله علیه وآله وسلم) بصورة غیر اعتیادیة.
وأهم المواضیع التی نالها التزییف والتشویه هو: الادعاء بأن رسول الله (صلى الله علیه وآله وسلم) کان هو الزوج الثالث لخدیجة، بعد أن کانت قد تزوجت بأثنین من سائر الناس، واحد بعد الآخر تسمی الروایات الموضوعة أحدهما بعتیق ابن عابد المخزومی ویدعى الآخر بأبی هالة هند بن زرارة بن نباش التمیمی، ثم عاشت بعد وفاة الثانی أیما، حتى خطبها رسول الله (صلى الله علیه وآله وسلم(. هکذا تصور الأخبار المنسوبة قصة – الحیاة الاجتماعیة – الزوجیة لخدیجة. ونفس المصادر التی تروی قصة زواجها الأول والثانی تذکر بإصرار، أن خدیجة عقیلة قریش کانت قد خطب ودها سادة القبائل وعظماء قریش، ولکنها تعرض عنهم فی کل مرة بإباء سمح، وترغب عنهم مترفعة مع تواضع لا یحط من قدر الخاطبین. ولقد ذکر المؤرخون أن من جملة من خطبها کان أبا جهل وأبا سفیان وعقبة بن أبی معیط والصلت بن أبی
یهاب وغیرهم من سادة القوم وعلیتهم. کما تقع المصادر نفسها فی تشوش وتناقض شدیدین بالنسبة للزوجین المزعومین. فبعض المصادر تسمی أحدهما أبا شهاب عمرو الکنذی، وتسمیه أخرى مالک بن النباش بن زرارة التمیمی، وأخرى تسمیه هند بن النباش، وأخرى تسمیه النباش بن زرارة. وأما من دعی بعتیق بن عابد المخزومی، وهو الزوج الثانی المفترض!، فقد سمته بعض المصادر عتیق بن
عابد التمیمی (1) إلى غیر ذلک.
وهکذا تشرق الادعاءات وتغرب دون ضابطة صحیحة ولا إشارة من علم! ومن حقنا أن نتساءل: کیف یمکن للمصادر التاریخیة
أن توفق بین إصرار السیدة خدیجة (علیها السلام) على رفض جمیع من خطبها بما فیهم وجوه الناس وأشرافهم، وبین زواجها من شخصین من دهماء الناس على التوالی لم تضبط الأخبار حتى أسماءهم؟! إن هذا لشئ عجاب! إنک لا تکاد تقرأ مصدرا حدیثا ولا قدیما إلا وتجد الرفض القاطع الذی تبده السیدة خدیجة بنت خویلد لکل خاطب لها مهما أعطی من مال أو جاه ومکانة، فکیف ترضى الاقتران بذین على ماهما علیه من مغموریة، وقلة جاه ومکانة؟ ولکی نتخطى سطح المشکلة، ونواجه الواقع، لا بد من الإشارة إلى أن السیدة خدیجة (علیها السلام) کانت لها أخت
تسمى هالة (2) تزوجت رجلا من بنی تمیم أولدها ذکرا
أسماه هندا.
وکان للتمیمی زوجة أخرى أولدها بنتین إحداهما زینب والأخرى رقیة، ثم هلک الرجل، فالتحق هند بعشیرته وأهله فی البادیة، والتحقت هالة وزوجة التمیمی الأخرى والبنتان بالسیدة خدیجة التی امتازت بمال وفیر وطیب نفس، فشملتهم جمیعا برعایتها. وفی هذه الأیام تزوج رسول الله (صلى الله علیه وآله وسلم) من خدیجة فصارت زینب ورقیة تحت رعایة رسول الله (صلى الله علیه وآله وسلم) والسیدة خدیجة (علیها السلام) حتى نسبتا إلیهما، وهو أمر مألوف
عند عرب ذلک الزمان (3) وفق قاعدة التبنی التی أبطلها
القرآن الکریم بعد ذلک سنین فی آیة 4 من سورة الأحزاب. وهکذا تکون قضیة هالة بنت خویلد وقصة زواجها
قد انسحبت على سیرة السیدة خدیجة وحیاتها بسبب ذلک التبنی، حتى بلغت الحال أن تشعبت بقصد وبغیرة لتکون زینب ورقیة ابنتین لرسول الله (صلى الله علیه وآله وسلم) کما یکون الرجل المخزومی الذی کان أول زوج لهالة بنت خویلد ثم زوجها الثانی التمیمی قد نسبا إلى السیدة خدیجة کزوجین لها قبل زواج رسول الله (صلى الله علیه وآله وسلم) منها. وهکذا، تقحم حیاة هالة الزوجیة ونتائجها على خدیجة (علیها السلام) وحیاتها الشخصیة. ومما یعزز صحة هذه الواقعة التاریخیة الهامة التی سردناها ما ذکره ابن شهرآشوب المازندرانی، حیث قال: روى أحمد البلاذری وأبو القاسم الکوفی فی کتابیهما والمرتضى فی الشافی، وأبو جعفر فی
التلخیص: أن النبی (صلى الله علیه وآله وسلم) تزوج بها وکانت عذراء (4)
هذا، ومن الجدیر ذکره، أن المصادر التی اعتبرت زینبا ورقیة بنتین للنبی (صلى الله علیه وآله وسلم) من السیدة خدیجة، قالت بولادتهما بعد البعثة ثم تقول ذات المصادر، أن رقیة
التی کانت أصغر بنات النبی (صلى الله علیه وآله وسلم) (5) قد تزوجت عثمان
ابن عفان قبل الهجرة إلى الحبشة علما بأن الهجرة المذکورة قد وقعت بعد البعثة بخمس سنین.
فهل تنسجم العقول مع هذه التقولات الساذجة (6) التی تناقضت مع نفسها ومع الوقائع التاریخیة؟ وتحقق أمل خدیجة!! کانت حیاة السیدة خدیجة (علیها السلام) مزیجة بین الرفض
الصارم لکل من یطلب یدها من أجل الزواج، وبین الانتظار والأمل لمن یلبی طموحها المعنوی من الرجال کزوج وولی أمر. وبینما کاد الرجال یقطعون الأمل من قناعتها بأی منهم، کانت سیدة قریش قد تحولت إلى أذن صاغیة تتسمع أخبار خیر شباب قریش الذی ملأ ذکره الحسن، والحدیث عن شمائله الطیبة فی أرکان مکة ونوادیها حتى أسماه قومه بالصادق الأمین، وهو لما یزل فی ریعان شبابه، ذلک هو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب. فقد کانت تتوسم أن یکون هو القرین المنتظر لها، وبدأ حدسها یقترب من الیقین رویدا رویدا کلما تقدمت الأیام. وماذا یمنعها أن تنتظر وهی لا تزال فی عز شبابها،وغضارة جمالها؟ فقد تأملت کثیرا فی حدیث لأحد أحبار الیهود حضر المسجد الحرام وراح یتحدث عن
اقتراب موعد بعثة الرسول الموعود من هذه الدیار، وهو ینوه بالتهنئة للمرأة التی تکون له زوجة وسکنا (7)
وجاءت الخطوة الأخرى لتقرب الأمل المتقد فی وجدانها، فحیث امتلأ سمعها بجمیل ذکر محمد بن عبد الله (صلى الله علیه وآله وسلم) فتى أبی طالب شیخ الأبطح، بالنظر لعظیم أمانته، وکریم صفاته ونبل خصائصه، وصدق حدیثه ومواقفه، فما بالها یا ترى لا تعقد صفقة تجاریة معه، تضاربه ببعض أموالها لیخرج بها متاجرا إلى الشام، ومن کمحمد (صلى الله علیه وآله وسلم) فی صدقه وسلامة سلوکه واستقامته؟ لقد انتفضت من غفلتها عنه، وکأنها لامت نفسها عن طول هذه الغفلة عنه، فبعثت من یعرض علیه هذا المشروع التجاری المربح الذی طالما اشرأبت إلیه
أعناق الرجال، وعرضت علیه من خلال وسیطها أن یکون له من الربح أفضل ما اعتادت أن تعطیه لمن تضاربه من التجار. ووجد رسول الله (صلى الله علیه وآله وسلم) حاجة فی نفسه، فتداول مع عمه أبی طالب فی ذلک، فلم یجد منه اعتراضا. وکان هذا الغرس الطیب مدرکا أن عمه قد کبر سنه، وأثقلته السنون، فلا بد من استثمار هذه الفرصة لدعم عمه الکریم الذی امتاز بجوده وکرمه ورعایته للناس رغم کونه أقل سادة قریش مالا. وخرج المصطفى (صلى الله علیه وآله وسلم) فی تجارته إلى الشام یصحبه میسرة غلام خدیجة الذی أنابته عنها فی هذا المشروع. وقد کان میسرة یقوم بمهمتین معا، إحداهما: اقتصادیة روتینیة تتعلق بالتجارة والمال وما إلى ذلک من شؤون. وثانیتهما: معنویة، ولعلها کانت هی المهمة المرکزیة
التی کلف بها من قبل سیدته خدیجة!! فقد کان موکولا إلیه أن یرصد محمدا (صلى الله علیه وآله وسلم) عن کثب فی هذه السفرة الطویلة نسبیا، کی یقدم تقریرا إلى السیدة خدیجة حول أبعاد شخصیته، لیکمل الصورة عن محمد (صلى الله علیه وآله وسلم) لدیها. ویبدو أن میسرة کان جدیرا بإعطاء الصورة المطلوبة، ولذا اختارته سیدته لذلک. وما أن صحب الغلام رسول الله (صلى الله علیه وآله وسلم) إلا ورأى الأعاجیب مما لم یکن فی حسابه ولا فی تصوراته، فرغم طیب المعاشرة، وحسن الأخلاق، وصدق المعاملة، وعظیم الأمانة، فإن أمورا خارجة عن المألوف تمکن میسرة من مشاهدتها عیانا. إلى آخر ما سبق ذکره.
1) لمعرفة التناقض راجع البحار 16: 22 والصحیح من سیرة النبی الأعظم (صلى الله علیه وآله وسلم) العلامة السید جعفر مرتضى العاملی 1: 121 وما بعدها، وفقه السیرة، محمد سعید البوطی: 61، والاستغاثة، أبوالقاسم الکوفی المتوفى عام 352 ه وما بعدها.
2) أنظر مختصر صحیح مسلم للحافظ المنذری ط الکویت 2: 204 حدیث 1674.
3) تراجع هذه القضیة فی کتاب الاستغاثة لأبی القاسم الکوفی المتوفى 352 ه ص 82 وما بعدها.
4) راجع مناقب آل أبی طالب 1: 159.
5) الإصابة 4: 304.
6) للتفاصیل یراجع الشیخ محمد حسن آل یاسین، النبوة هامش ص 65 کما یراجع الاستغاثة: 80 وما بعدها والصحیح من سیرة النبی (صلى الله علیه وآله وسلم(، السید جعفر مرتضى العاملی 1: 121 وما بعدها.
7) بحار الأنوار للعلامة المجلسی 16: 4 نقلا من مناقب آل أبی طالب.