مع أن التاریخ لم یتعرض للجزئیات المتعلقة بحیاة السیدة خدیجة، إلا أن ما وصل إلینا یمکن أن یرسم بعض معالم شخصیتها المتمیزة والبارزة. وهنا ینبغی الالتفات إلى نکتة مهمة تکشف عن روح هذه المرأة الشریفة الکبیرة، وهمتها العالیة، وحریتها واستقلالها، وهی: إن خدیجة التی ورثت أموالا طائلة، من أبیها الذی قتل فی حرب الفجار أو قبلها بقلیل، لم تترک هذه الأموال راکدة، ولم تراب بها فی زمن کان الربا رائجا، وإنما استثمرت هذه الأموال فی التجارة، واستخدمت رجالا صالحین لهذا الغرض، واستطاعت أن تکسب عن طریق التجارة ثروة ضخمة حتى قیل: إن لها أکثر من ثمانین ألف جمل متفرقة فی کل مکان، وکان لها فی کل
ناحیة تجارة، وفی کل بلد مال، مثل مصر والحبشة وغیرها (1)
وقیل: وکانت خدیجة بنت خویلد امرأة ذات شرف
ومال، تستأجر الرجال فی مالها وتضاربهم (2)
ولا بد أن نقول: إن إدارة قافلة تجاریة کبیرة من هذا القبیل فی ذلک العصر فی الجزیرة العربیة، کان أمرا عسیرا، ولا سیما إذا کان المدیر امرأة، فی زمن کانت المرأة محرومة من جمیع حقوقها الاجتماعیة، وکثیرا ما کان الرجال القساة یئدون بناتهم دون ذنب. إذن، لا بد لهذه المرأة العظیمة من نبوغ متفوق،
وشخصیة شامخة قویة وخبرة بشؤون الحیاة کافیة تؤهلها لإدارة تلک التجارة الواسعة (3)
أمینی / تعریب علی جمال الحسینی.
ومن نبوغها وحدة ذکائها ونظرتها البعیدة أدرکت عظمة شخصیة الرسول الأکرم (صلى الله علیه وآله وسلم) وسمو أخلاقه ومستقبله الزاهر قبل تکلیفه برسالة السماء، فاختارته زوجا لها دون الرجال والشخصیات المرموقة الذین تقدموا لخطبتها والذین سبق أن ردتهم، بل هی التی تقدمت وعرضت نفسها ورغبت فی الاقتران به، على رغم الفرق الشاسع بین حیاتها المادیة وحیاته البسیطة، وعلى رغم کونها امرأة، ومن صفات المرأة الحرص على ما تملک، لا سیما إذا کانت ذات ثروة ولیس لها کفیل ولا حام یحمیها.
ومع ذلک کله فقد عشقت شخصیة محمد بن عبد الله ومکارم أخلاقه وبذلت له نفسها وما تملک قبل البعثة وبعدها، ومکنته من التصرف فی أموالها وبذله فی سبیل
الله والإسلام والدفاع عن القیم الفاضلة. وکان لأموال السیدة الطاهرة خدیجة بنت خویلد (سلام الله علیها) الأثر البالغ، والرکیزة الأولى، والمنعطف التاریخی الخطیر فی تثبیت دعائم الإسلام یومذاک وتقویته، إذ کان الدین الإسلامی برعما، وفی خطواته الأولى وفی دور التکوین، وکان بأمس الحاجة إلى المال لتبلیغ رسالة السماء وبلوغ هدفه، فقیض الله سبحانه لخدمة الإسلام السیدة خدیجة وأموالها، وبفضل مالها تحقق الهدف الأول المنشود، فکان رکنا من أرکان الإسلام، وقد أشار سبحانه وتعالى بهذه الآیة خروج النبی (صلى الله علیه وآله وسلم) بأموال خدیجة إلى الشام – (ووجدک عائلا فأغنى) – أغناک بمال خدیجة، وقال (صلى الله علیه وآله وسلم(: «ما نفعنی مال قط مثل ما نفعنی مال خدیجة«. وما ثبت دعائم الإسلام إلا أموال خدیجة وحمایة شیخ البطحاء أبی طالب ونصرته، وسیف علی بن أبی طالب وجهاده المستمیت.
1) بحار الأنوار ج 16 ص 22.
2) سیرة ابن هشام ج 1 ص 199.
3) أنظر: فاطمة الزهراء المرأة النموذجیة فی الإسلام / إبراهیم.