و لم یقتصر هذا الامر علی تلک الحقبة الزمنیة التی مرت بها الأجیال العربیة التی سکنت بجوار بیت الله الحرام، و انما تعداه إلی أزمنة أخری و متعاقبة لذلک الزمن حتی بعد مجیء النبی الأعظم صلی الله علیه و آله و سلم حسبما تدل علیه النصوص التاریخیة والحدیثیة، و من ثم فالاعتقاد بحصول الولادة فی جوف الکعبة متلازم مع الاعتقاد بحرمة الکعبة أعزها الله وهو ما لم یتحقق حصوله عند بنی أمیة والزبیریین کما دلت علیه المصنفات الإسلامیة التی باتت حبلی بهذه الحوادث والشواهد.
ألف. أما الأمویون فقد کشفوا عن حقیقة اعتقادهم بحرمة الکعبة من خلال إرسالهم لمسرف بن عقبة الذی بعثه یزید بن معاویة لأخذ البیعة له من أهل المدینة و مکة و قتال عبدالله بن الزبیر الذی تحصن بالحرم، فقدم الجیش و هو بقیادة الحصین بن نمیر السکونی لتحقیق هذا الهدف الذی ثم إنجاز بعضه
علی ید مسرف بن عقبة فی المدینة المنورة حینما دخلها و استباحها ثلاثة أیام و أخذ البیعة من الصحابة علی أنهم عبید (لیزید بن معاویة) (1) لتظهر بهذه البیعة الأمویة والشریعة السفیانیة ثقافة الاعتقاد بحرمة المدینة و حرمة الصحابة.
و أما مکة فظهر اعتقاد بنی أمیة بحرمتها من خلال قتالهم ابن الزبیر، فلما استعصی علیهم نصبوا المنجنیق ورموا بیت الله بالحجارة، و حرقوه بالنار، و أخذوا یرتجزون و یقولون:
خطارة مثل الفنیق المزید
نرمی بها أعواد هذا المسجد (2)
باء. و لم تکن هذه المرة الوحیدة التی یتعرض فیها بیت الله لهتک الحرمة والدمار. بل حدث ما هو أعظم من ذلک! حینما أمر عبدالملک بن مروان، الحجاج بن یوسف الثقفی بالتوجه إلی مکة و قتل عبدالله بن الزبیر، فکان له ما أراد، بعد أن حاصر الحجاج و جیشه البیت الحرام فی الشهر الحرام، و لم یمنعه من ذلک الفعل الشنیع مانع، فلا البیت له حرمة، و لا الشهر له حرمة، و لا المسلمون الذین قدموا لتأدیة المناسک کانت لهم حرمة عند بنی أمیة و أشیاعهم.
فکان من أمر الحجاج أن نصب المنجنیق علی جبل أبی قبیس ورمی به الکعبة (3)
و أول مارمی بالمنجنیق رعدت السماء و برقت و علا صوت الرعد والبرق علی الحجارة فاشتمل علیها!! فأعظم ذلک أهل الشام و أمسکوا بأیدیهم.
فرفع الحجاج برکة قبائه فعززها فی منطقته و رفع حجر المنجنیق فوضعه فیه ثم قال أرموا و رمی معهم؛ ثم أصبحوا فجاءت صاعقة تتبعها أخری، فقتلت من أصحابه اثنی عشر رجلا؛ فانکسر أهل الشام.
فقال الحجاج: یا أهل الشام لا تنکروا هذا، فإنی ابن تهامة و هذه صواعقها، و هذا الفتح قد حضر فأبشروا (4)
فأخذوا یرمون بیت الله، و جعلت الحجارة و لا تهد، لکنها تقع فی المسجد الحرام کالمطر، و کان رماة المنجنیق إذا هم وهنوا، و سکتوا ساعة فلم یرموا یبعث إلیهم الحجاج فیشتمهم و یتهددهم بالقتل.
فلم یزل الحجاج و أصحابه یرمون بیت الله الحرام بالحجارة حتی انصدع الحائط الذی علی بئر زمزم عن آخره! و انتقضت الکعبة من جوانبها!
ثم أمرهم الحجاج فرموا بکیزان النفط والنار، حتی احترقت الستارات کلها فصارت رمادا!.
والحجاج واقف ینظر کیف تحترق الستارات، و هو یرتجز و یقول:
إما تراها ساطعا غبارها
والله فیما یزعمون جارها
فقد وهت وصدعت أحجارها
و نفرت منها معا أطیارها
و حان من کعبته دمارها
و حرقت منها معا أستارها
لما علاها نفطها و نارها (5)
ثم جرت معرکة عظیمة و دخل جیش الشام علی عبدالله بن الزبیر من أبواب المسجد الحرام فی وقت الصلاة و هم ینادونه: (بین العمیاء) (6)، (بین ذات النطاقین) (7)
و دار القتال فی باحة المسجد الحرام و قتل عبدالله بن الزبیر و جمیع من کان معه، و قطع رأسه و أرسل إلی عبدالملک بن مروان (8)
أما بدن ابن الزبیر فقد صلب علی جذع، و قیل علی خشبة، منکسا علی رأسه لعدة أیام (9) و ربط معه کلب میت (10)؛ ثم أنزله الحجاج و ألقی به فی مقابر الیهود (11) و قیل دفنته أمه بالحجون (10)
و قتل معه مائتان و أربعون رجلا منهم من سال دمه فی جوف الکعبة (12)
و بعد هذه الانتهاکات العظیمة لبیت الله، من الهدم، والحرق، و قتل الناس،و صلبهم علی الجذوع کیف تبقی له حرمة بین الناس و علی مختلف معتقداتهم؟!
بل: إن السؤال الذی یفرض نفسه فی البحث هو: کیف تعاد للبیت حرمته و هیبته بعد الآن؟!
و کیف یمکن دفع الضرر عن مستقبلا؟! بل کیف سیعاد بناؤه؟!، سؤال سیرد جوابه لاحقا.
و علیه:
فأی منقبة نالها حکیم بن حزام فی ولادته فی جوف الکعبة حسبما یدعی الذهبی، والبیت بهذه الحالة و بنو أمیة لا یرون له حرمة؟! و من ثم قد ذهبت المناقب بذهاب الحرم.
1) کتاب المنمق لمحمد بن حبیب البغدادی: ص 316؛ الطرائف لابن طاووس: ص 166.
2) الکامل فی التاریخ لابن الأثیر: ج 4، ص 124.
3) الکامل فی التاریخ لابن الأثیر: ج4، ص 350. أسد الغابة لابن الأثیر: ج 3، ص 244.
4) المصدر السابق.
5) الفتوح لابن أعثم: ج 6، ص 340.
6) تاریخ أبی مخنف: ج 2، ص 95؛ مروج الذهب: ج 3، ص 129؛ المصنف لابن أبی شیبة: ج 5، ص 280.
7) ذات النطاقین هی أسماء بنت أبی بکر و قد أصیبت بالعمی فی آخر عمرها؛ و سبب تسمیتها بـ «ذات النطاقین» هو لکونها شقت نطاقها إلی نصفین حینما جهزت طعاما لرسول الله صلی الله علیه و آله و سلم و أبی بکر فی خروجهما إلی المدینة، فربطت الطعام بشق من النطاق والماء بالشق الآخر.أنظر: صحیح البخاری: ج 3، ص 1087، حدیث 2817؛ صحیح مسلم: ج 4، ص 1971، حدیث 2545.
8) الفتوح لابن أعثم: ج 6، ص 342؛ تاریخ الطبری: ج3، ص 1192.
9) الکامل فی التاریخ لابن الأثیر: ج 4، ص 356 – 357؛ الفتوح لابن أعثم: ج 6، ص 343.
10) الکامل لابن الأثیر: ج 4، ص 357.
11) صحیح مسلم، باب: ذکر کذاب ثقیف و مبیرها: ج 4، ص 1971.
12) الوافی بالوفیات للصفدی: ج 17، ص 94؛ فوات الوفیات للکتبی: ج 1، ص 535.