لما رأت قریش عز النبی (صلى الله علیه وآله وسلم) بمن معه، وانتشار الإسلام بین القبائل العربیة، وعز أصحابه الذین هاجروا
إلى الحبشة، بالإضافة إلى إعلان حمزة بن عبد المطلب (رضی الله عنه) الإسلام، ووقوف علی بن أبی طالب (علیه السلام) بفتوته مدافعا عن ابن عمه وعن دعوته الإسلامیة، ومناصرة بنی هاشم وبنی عبد المطلب، وتیقن المشرکون أن لا قدرة لهم على قتل محمد (صلى الله علیه وآله وسلم(، وأن أبا
طالب لا یسلم محمدا (صلى الله علیه وآله وسلم) إلیهم ولا یخذله. فأخذهم الفرق من اتساع الدعوة وانتشارها، وأحسوا بالخطر المحدق بهم على زعامتهم ومصالحهم وأن جمیع جهودهم وظلمهم ومقاومتهم للإسلام ولرسوله باءت بالفشل. لذا حاولت قریش أن تقوم بتجربة جدیدة غیر أسلوب الإرهاب والتعذیب، والضغط، فلجأت إلى الحصار الاقتصادی والاجتماعی، ضد أبی طالب والهاشمیین، وهذا الحصار لا یخلو من ثلاث حالات: إما أن یرضخوا لمطالبها فی تسلیم محمد (صلى الله علیه وآله وسلم) لها لتقتله.
وإما أن یتراجع محمد (صلى الله علیه وآله وسلم) عن دعوته. وإما أن یموتوا جوعا وذلا، وهذا الإجراء یرفع المسؤولیة عن الفرد المحدد، فتکون مسؤولیته جماعیة عامة، فقروا هذا الرأی بعد اجتماع مشیخة قریش فی دار الندوة. اجتمعوا فی دار الندوة، وتداولوا الآراء مع شیاطینهم وقلبوا الأمور ظهرا لبطن، فاتخذوا قرارا بالإجماع أن یکتبوا صحیفة مقاطعة بنی هاشم ویودعوها فی الکعبة بشروط قاسیة وملزمة لکل من قریش وکنانة ومن تابعهم، وهی أن لا یبایعوا بنی هاشم ولا یشاوروهم، ولا یحدثوهم، ولا یجتمعوا معهم، ولا یناکحوهم ولا یقضوا لهم حاجة ولا یعاملوهم حتى یدفع بنو هاشم إلیهم
محمدا فیقتلوه، أو یخلوا بینهم وبینه أو ینتهی من تسفیه أحلامهم. ووقع على هذه الصحیفة أربعون زعیما من وجوه
قریش وکنانة، وختموها بأختامهم، وعلقت هذه الوثیقة فی الکعبة، وکان ذلک فی سنة سبع من البعثة على أشهر الروایات. ولما علم أبو طالب بصحیفة المقاطعة، قام إلیهم یحذرهم الحرب، وقطیعة الرحم، وینهاهم عن اتباع السفهاء، ویعلمهم استمراره على مؤازرة رسول الله (صلى الله علیه وآله وسلم)
بکل ما یستطیع من قوة ویذکرهم بفضله وشرفه، ویضرب لهم المثل بناقة صالح، ویذکرهم بإلغاء أمر الصحیفة. بقوله: ألا أبلغا عنی على ذات بینها – لؤیا وخصا من لؤی بنی کعب ألم تعلموا أنا وجدنا محمدا – نبیا کموسى خط فی أول الکتب وأن علیه فی العباد محبة – ولا حیف فیمن خصه الله بالحب
وأن الذی لفقتم فی کتابکم – یکون لکم یوما کراغیة السقب أفیقوا أفیقوا قبل أن یحفر الزبى – ویصبح من لم یجن ذنبا کذی الذنب ولا تتبعوا أمر الغواة وتقطعوا – أواصرنا بعد المودة والقرب إلى آخر الأبیات المذکورة فی دیوان أبی طالب وفی کتاب، إیمان أبی طالب – للإمام شمس الدین بن معد المتوفى سنة 630 ه -. ودخل بنو هاشم الشعب – شعب أبی طالب – ومعهم بنو المطلب بن عبد مناف باستثناء عبد العزى (أبی لهب(، لعنه الله وأخزاه، واستمروا فیه إلى السنة العاشرة، وکانوا ینفقون من أموال السیدة خدیجة بنت خویلد، وأموال أبی طالب (علیه السلام) حتى نفدت، ولقد اضطروا بعدها إلى أن یقتاتوا بورق الشجر، وکان
صبیتـهم یتضورون جوعا، وظل المسلمون فی شعب أبی طالب یقاسون الجوع والحرمان لا یخرجون منه إلا فی أیام الموسم، موسم العمرة فی رجب، وموسم الحج فی ذی الحجة، فکانوا یشترون حینئذ ویبیعون ضمن ظروف صعبة جدا. وکان علی بن أبی طالب (علیه السلام) یأتیهم بالطعام سرا من
مکة، من حیث تمکن، وقد کان یأتیهم سرا من أناس کانوا مرغمین على مجاراة قریش کهشام بن عمرو أحد بنی عامر، الذی کان یأتی بالبعیر بعد البعیر لیلا محملا بأنواع الطعام والتمر إلى فم الشعب، فإذا انتهى به إلى ذلک المکان نزع عنه خطامه وضربه على جنبیه، فیدخل الشعب بما علیه، ولکن تلک الصلات البسیطة لم تکن لتکفیهم. والسیدة خدیجة کانت تشارکهم شظف العیش وفاطمة صبیة فی أول عمرها. واستمرت هذه المحنة ثلاث سنین، من السنة
السابعة إلى العاشرة من البعثة، عند ذلک تلاوم رجال من بنی عبد مناف ومن قصی وسواهم من قریش قد ولدتهم نساء من بنی هاشم على هذا الحصار الظالم والمقاطعة الجائرة. وأول من سعى إلى نقض الصحیفة والاتفاق، وفک الحصار عن الهاشمیین، هشام بن عمرو، وزهیر بن أبی أمیة المخزومی، والمطعم بن عدی، وزمعة بن المطلب بن أسد، والبختری بن هشام، واتفقوا أن یفدوا إلى أندیتهم، ویعلنوا رفض المقاطعة، وإنهاء الحصار. وجاء فی سیرة ابن هشام: إن رسول الله (صلى الله علیه وآله وسلم) قال لعمه أبی طالب: یا عم إن ربی الله قد سلط الأرضة على صحیفة قریش، فلم یدع اسما إلا (باسمک اللهم(. فقال: ربک أخبرک بهذا؟ قال: نعم. فخرج أبو طالب إلى أندیة قریش قبل أن یثیر النفر الخمسة اعتراضهم على الحصار والمقاطعة، وقال: یا
معشر قریش أن ابن أخی أخبرنی بکذا وکذا، فهلموا إلى صحیفتکم، فإن کان کما قال ابن أخی فانتهوا عن قطیعتنا وأنزلوا عما فیها، وإن یکن کاذبا دفعت إلیکم ابن أخی، فقال القوم بأجمعهم: قد أنصفت ورضینا، وتعاقدوا على ذلک.
وقام المطعم إلى الصحیفة وجاء بها وفتحت على مرأى من الجمیع فإذا بها کما أخبرهم النبی (صلى الله علیه وآله وسلم) على لسان عمه أبی طالب، قد أکلت الأرضة جمیع حروفها «إلا بسمک اللهم» ومزقت الصحیفة، بعد موقف هؤلاء النفر الذین أبت نفوسهم الکریمة هذه القطیعة التی کادت أن تقضی على الهاشمیین. وفی تلک السنة، وقبل الهجرة بثلاث سنین، مرض أبو طالب ثم توفی، رضوان الله علیه، وکان ذلک فی [26 رجب – علی المشهور- أو فی 15 أو 17 شوال علی قول، رجحه المؤلف، من] السنة العاشرة من البعثة النبویة، وکان له من العمر ست وثمانون سنة، وقیل تسعون سنة، ودفن
بالحجون إلى جنب قبری جده وأبیه. لما حضرت أبا طالب الوفاة، دعا أولاده، وإخوته وأحلافه وعشیرته وأکد علیهم فی وصیته نصرة النبی (صلى الله علیه وآله وسلم) ومؤازرته، وبذل النفوس دون مهجته، وعرفهم ما لهم فی ذلک من الشرف العاجل والثواب الآجل، وأنشأ یقول: أوصی بنصر نبی الخیر أربعة – ابنی علیا وشیخ القوم عباسا وحمزة الأسد الحامی حقیقته – وجعفرا أن تذودوا دونه الناسا کونوا فداء لکم أمی وما ولدت – فی نصر أحمد دون الناس أتراسا فهذا الحدیث وحده یکفی للدلالة على إیمان أبی طالب رضوان الله علیه. وهناک وجوه کثیرة تدل على صدق إیمانه بالله
وإقراره بالنبوة نذکر منها وجهین: أحدهما: أمر النبی (صلى الله علیه وآله وسلم) علیا (علیه السلام) أن یفعل به ما یفعل بأموات المسلمین من الغسل والتحنیط والتکفین دون الجاحدین من أولاده، إذ لم یکن حضر أحد منهم سوى علی أمیر المؤمنین (علیه السلام) من المؤمنین، وأما جعفر فکان یومئذ عند
النجاشی ببلاد الحبشة، وأما طالب وعقیل فکانا یومئذ حاضرین، ولکنهما کانا مقیمین على خلاف الإسلام، ولم یسلم واحد منهما بعد، فخص بذلک علیا أمیر المؤمنین (علیه السلام) بتولیه أمره وتجهیزه لمکان إیمانه، ولم یترکه لهما على رغم أنهما أکبر من علی (علیه السلام) سنا لمباینتهما له فی معتقده، ولو کان أبو طالب مات کافرا، لما أمر رسول الله (صلى الله علیه وآله وسلم) علیا بتولیة أمره لانقطاع العصمة بین الکافر والمسلم، ولترکه لهما کما ترک عمه الآخر أبا لهب. ولم یعبأ بشأنه، ولم یحفل بأمره، وتولیه علی (علیه السلام) تجهیزه من دون أخویه اللذین هما أکبر منه، شاهد قاطع
على صدق إیمان أبی طالب وإسلامه. والوجه الآخر تأبین رسول الله (صلى الله علیه وآله وسلم) أبا طالب بهذه الکلمات الرائعة الخالدة، والدعاء له «وصلتک رحم وجزیت خیرا» ووعد أصحابه بالشفاعة له التی یعجب بها أهل الثقلین، وموالاته بین الدعاء له والثناء علیه، لدلیل قاطع على إسلام أبی طالب وإیمانه، ومنتهى الأمر أنه کان یکتم إیمانه ولا یجاهر به، لمصالح تتعلق بحفظ الإسلام ودعوة التوحید وهی فی أیامها الأولى، وکان (رضی الله عنه) یجاهر بالنصرة والحمایة. وشیعه (صلى الله علیه وآله وسلم) حتى مدفنه فی مقابر قریش بالحجون إلى جنب جدیه عبد المطلب و عبد مناف (رحمهم الله(. ولم تکن الصلاة على أموات المسلمین مشرعة غیر هذه الصلاة فی صدر الإسلام، حتى فرض الله سبحانه صلاة الجنائز فیما بعد، ومثل ذلک صلى النبی (صلى الله علیه وآله وسلم) على زوجته الطاهرة السیدة خدیجة، سلام الله علیهما.
ثم رثى الإمام علی (علیه السلام) أباه أبا طالب بهذه الأبیات. أبا طالب عصمة المستجیر – وغیث المحول ونور الظلم لقد هد فقدک أهل الحفاظ – فصلى علیک ولی النعم ولقاک ربک رضوانه – فقد کنت للمصطفى خیر عم وبعد أیام مرضت السیدة خدیجة بنت خویلد، فدخل علیها رسول الله (صلى الله علیه وآله وسلم) وهی تجود بنفسها، فقال: بالکره منی ما أرى، ولعل الله أن یجعل فی الکره خیرا کثیرا.